الدليل العاشر: أن هؤلاء المنكرين لإفادة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم العلم يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم؛ أنهم قالوا: تلك الأقوال، ولو قيل له: أن هذا الكلام الذي تقطع أنت بأن أمامك قد قاله لم يقله الإمام؛ لأنكر ذلك، وقال: أنا متأكد من إمامي وأقواله، وأن هذا هو مذهبه، ومعلوم أن تلك المذاهب لم يروها عنهم إلا الواحد والاثنان والثلاثة ونحوهم، فمذهب
مالك مثلاً هو من رواية
ابن القاسم ، أو من رواية
ابن عبد الحكم ، ومذهب
الشافعي من رواية
الربيع وغيره وهم آحاد، ومذهب
أبي حنيفة إما أن يكون من راويه
محمد بن الحسن ، أو من رواية
أبي يوسف .إذاً فمذهب الأئمة مرجعها في الأخير إلى اثنين أو ثلاثة، وأحياناً إلى واحد، ومع ذلك نجد اتباعهم يجزمون ويقولون هذا مذهب الإمام، ويقطعون به، فيا سبحان الله! ماذا نقول فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجعلوا أصحابه صلى الله عليه وسلم كأصحاب الإمام، فإذا حدثكم الثقة عن
ابن عمر ، أو عن
أبي هريرة ، أو عن
أنس أو عن أم المؤمنين، عن أي صحابي فاقبلوه كما تقبلون كلام رواة المذاهب واقطعوا واجزموا أنه قاله كما تقطعون وتجزمون بأن إمامكم الفلاني قد قال ذلك، فالحكم واحد، والحال واحد.وأما أن تشترطوا التواتر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشترطوه في كلام أئمتكم؛ فذلك حيف وتحكم. وهناك أمر آخر وهو: أننا نقول لغير الفقهاء من المتكلمين والمتفلسفين: إن النظرية الفلانية ليست من كلام
أفلاطون ، كنظرية
أفلاطون في المثل، أو أن الكلام في الكليات الخمس في المنطق ليس من كلام
أرسطو ، أو قلنا: نحن لا نقبل أي خبر عن
أرسطو إلا بخبر يقين؛ لو قلنا ذلك لأنكروا ذلك غاية الإنكار، وتعجبوا وقالوا: هذا دليل على جهلكم، وأنكم لا تفقهون؛ فإن
أفلاطون قال كذا وكذا، و
أرسطو قال كذا، فنقول: سبحان الله! لم تجزمون بكلام
أرسطو و
أفلاطون مع أن بينكم وبينهما قروناً طويلة؟! وهم من أمة أخرى منقرضة، والنقل هنا من لغة إلى لغة، وهناك أجيال كثيرة، فربما كانت هناك أكثر من لغة أيضاً، ثم مع ذلك تجهلون وتسخرون ممن يقول هذا ليس ثابتاً عن
أرسطو أو
أفلاطون ! لماذا تقطعون بذلك؟! لقالوا: هذا معلوم، وقد بلغنا عمن يهتم بهذا العلم، وأثبت ذلك كل المهتمين بالعلم، وهم حجة في هذا، وأما أنتم يا أهل الكتاب فلستم حجة! لأنكم لا تعلمون كلام
الفلاسفة.فنقول: ونحن أيضاً الذين نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نجزم ونقطع بأن هذا قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ثابت عندنا بنقل العدل الضابط عن مثله، فهو متصل وغير معلل ولا شاذ، وسائر الشروط الصحة موجودة، بينما أنتم ليس لديكم ذلك، فأي الجزمين أو القطعين أقوى جزمنا نحن أم أنتم؟! ومن هو أولى بأن يرد كلامه وقطعه؟! وقد ذكر الشيخ رحمه الله في (ص:434) كلاماً عجيباً في بيان الطوائف المختلفة التي ردت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما جزئياً أو كلياً، فهي إما أن تردها رأساً، وإما أن تقول لا نقبل إلا ما وافق القرآن، أو أن يقولوا: لا نقبل إلا المتواتر، ولا نقبل الآحاد، وإما أن يردوا أخبار الصحابة إلا ما كان عن أهل البيت، وهو قول
الرافضة ، وإما أن يردوا أخبار المقتتلين في الجمل و
صفين ، وهذا مذهب طائفة من
المعتزلة ، وإما أن يقبلوا خبر الأربعة بشرط تنائي بلدانهم.. إلى آخر الطوائف، ولعلنا سنأتي عليها إن شاء الله، وكل طائفة لها منهج في رد ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما
أهل السنة والجماعة فيؤمنون بكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم.